فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما رد الله سبحانه الأشياء إلى أصولها، ونهى عن التشتت والتشعب، وكان من ذلك أمر التبني، وكان من المتفرع عليه الميراث بما كان قديمًا من الهجرة والنصرة والأخوة التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم لما كان الأمر محتاجًا إليها، وكان ذلك قد نسخ بالآية التي في آخر الأنفال، وهي قبل هذه السورة ترتيبًا ونزولًا، وكان ما ذكر هنا فردًا داخلًا في عموم العبارة في تلك الآية، أعادها منا تأكيدًا وتنصيصًا على هذا الفرد للاهتمام به مع ما فيها من تفصيل وزيادة فقال: {وأولوا الأرحام} أي القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها {بعضهم أولى} بحق القرابة {ببعض} في جميع المنافع العامة للدعوة والإرث والنصرة والصلة {في كتاب الله} أي قضاء الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه، وحكمه كما تقدم في كتابكم هذا، وكما أشار إليه الحديث الماضي آنفًا.
ولما بين أنهم أولى بسبب القرابة، بين المفصل عليه فقال: {من} أي هم أولى بسبب القرابة من {المؤمنين} الأنصار من غير قرابة مرجحة {والمهاجرين} المؤمنين من غير قرابة كذلك، ولما كان المعنى: أولى في كل نفع، استثنى منه على القاعدة الاستثناء من أعم العام قوله، لافتًا النظم إلى أسلوب الخطاب ليأخذ المخاطبون منه أنهم متصفون بالرسوخ في الإيمان الذي مضى ما دل عليه في آية الأولوية من التعبير بالوصف، فيحثهم ذلك على فعل المعروف: {إلا أن تفعلوا} أي حال كونكم موصلين ومسندين {إلى أوليائكم} بالرق أو التبني أو الحلف في الصحة مطلقًا وفي المرض من الثلث تنجيرًا أو وصية {معروفًا} تنفعونهم به، فيكون حينئذ ذلك الولي مستحقًا لذلك، ولا يكون ذو الرحم أولى منه، بل لا وصية لوارث.
ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله، أعاد التنبيه على ذلك تأكيدًا قلعًا لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفًا: {كان ذلك} أي الحكم العظيم {في الكتاب} أي القرآن في آخر سورة الأنفال {مسطورًا} بعبارة تعمه، قال الأصبهاني: وقيل: في التوارة، لأن في التوراة: إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه، وميراثه لذوي قرابته، فالآية من الاحتباك: أثبت وصف الإيمان أولًا دليلًا على حذفه ثانيًا ووصف الهجرة ثانيًا دليلًا على حذف النصرة أولًا.
ولما كان نقض العوائد وتغيير المألوفات مما يشق كثيرًا على النفوس، ويفرق المجتمعين، ويقطع بين المتواصلين، ويباعد بين المتقاربين، قال مذكرًا له صلى الله عليه وسلم بما أخذ على من قبله من نسخ أديانهم بدينه، وتغيير مألوفاتهم بإلفه، ومن نصيحة قومهم بإبلاغهم كل ما أرسلوا به، صارفًا القول إلى مظهر العظمة لأنه أدعى إلى قبول الأوامر: {وإذا} فعلم أن التقدير: اذكر ذلك- أي ما سطرناه لك قبل هذا في كتابك، واذكر إذ {أخذنا} بعظمتنا {من النبيين ميثاقهم} في تبليغ الرسالة في المنشط والمكره، وفي تصديق بعضهم لبعض، وفي اتباعك فيما أخبرناك به في قولنا {لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} [آل عمران: 81] وقولهم: أقررنا.
ولما ذكره ما أخذ على جميع الأنبياء من العهد في تغيير مألوفاتهم إلى ما يأمرهم سبحانه به من إبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه، ذكره ما أخذ عليه من العهد في التبليغ فقال: {ومنك} أي في قولنا في هذه السورة {اتق الله واتبع ما يوحى إليك} وفي المائدة {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
[المائدة: 67] فلا تهتم بمراعاة عدو ولا خليل حقير ولا جليل، ولما أتم المراد إجمالًا وعمومًا، وخصه صلى الله عليه وسلم من ذلك العموم مبتدئًا به بيانًا لتشريفه ولأنه المقصود بالذات بالأمر بالتقوى واتباع الوحي لأجل التبني وغيره، أتبعه بقية أولي العزم الذين هم أصحاب الكتب ومشاهير أرباب الشرائع تأكيدًا للأمر وتعظيمًا للمقام، لأن من علم له شركًا في أمر اجتهد في سبقه فيه ورتبهم على ترتيبهم في الزمان لأنه لم يقصد المفاضلة بينهم، بل التآسية بالمتقدمين والمتأخرين فقال: {ومن نوح} أول الرسل إلى المخالفين {وإبراهيم} أبي الأنبياء {وموسى} أول أصحاب الكتب من أنبياء بني إسرائيل {وعيسى ابن مريم} ختامهم، نسبه إلى أمه مناداة على من ضلَّ فيه بالتوبيخ والتسجيل بالفضيحة؛ ثم زاد في تأكيد الأمر وتعظيمه تعظيمًا للموثق فيه، وإشارة إلى مشقته، فقال مؤكدًا بإعادة العامل ومظهر العظمة لصعوبة الرجوع عن المالوف: {وأخذنا منهم} أي بعظمتنا في ذلك {ميثاقا غليظًا} استعارة من وصف الأجرام العظام كناية عن أنه لا يمكن قطعه لمن أراد الوصلة بنا.
ولما كان الأخذ على النبيين في ذلك اخذًا على أممهم، وكان الكفر معذبًا عليه من غير شرط، والطاعة مثابًا عليها بشرط الإخلاص علله، معبرًا بما هو مقصود السورة فقال ملتفتًا إلى مقام الغيبة لتعظيم الهيبة لأن الخطاب إذا طال استأنس المخاطب: {ليسأل} أي يوم القيامة {الصادقين} أي في الوفاء بالعهد {عن صدقهم} هل هو لله خالصًا أو لا، تشريفًا لهم وإهانة وتبكيتًا للكاذبين، ويسأل الكافرين عن كفرهم ما الذي حملهم عليه، والحال أنه أعد للصادقين ثوابًا عظيم {وأعد للكافرين} أي الساترين لإشراق أنوار الميثاق {عذابًا أليمًا} فالآية، من محاسن رياض الاحتباك، وإنما صرح بسؤال الصادق بشارة له بتشريفه في ذلك الموقف العظيم، وطوى سؤال الكفار إشارة إلى استهانتهم بفضيحة الكذب {ويحلفون على الكذب وهو يعلمون} [المجادلة: 14] {فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18] وذكر ما هو أنكى لهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {النبى أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ}.
تقرير لصحة ما صدر منه عليه الصلاة والسلام من التزوج بزينب وكأن هذا جواب عن سؤال وهو أن قائلًا لو قال هب أن الأدعياء ليسوا بأبناء كما قلت لكن من سماه غيره ابنًا إذا كان لدعيه شيء حسن لا يليق بمروءته أن يأخذه منه ويطعن فيه عرفًا فقال الله تعالى: {النبى أولى بالمؤمنين} جوابًا عن ذلك السؤال وتقريره هو أن دفع الحاجات على مراتب؛ دفع حاجة الأجانب ثم دفع حاجة الأقارب الذين على حواشي النسب ثم دفع حاجة الأصول والفصول ثم دفع حاجة النفس، والأول عرفًا دون الثاني وكذلك شرعًا فإن العاقلة تتحمل الدية عنهم ولا تتحملها عن الأجانب والثاني دون الثالث أيضًا وهو ظاهر بدليل النفقة والثالث دون الرابع فإن النفس تقدم على الغير وإليه أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» إذا علمت هذا فالإنسان إذا كان معه ما يغطي به إحدى الرجلين أو يدفع به حاجة عن أحد شقي بدنه، فلو أخذ الغطاء من أحدهما وغطى به الآخر لا يكون لأحد أن يقول له لم فعلت فضلًا عن أن يقول بئسما فعلت، اللهم إلا أن يكون أحد العضوين أشرف من الآخر مثل ما إذا وقى الإنسان عينه بيده ويدفع البرد عن رأسه الذي هو معدن حواسه ويترك رجله تبرد فإنه الواجب عقلًا، فمن يعكس الأمر يقال له لم فعلت، وإذا تبين هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمن من نفسه فلو دفع المؤمن حاجة نفسه دون حاجة نبيه يكون مثله مثل من يدهن شعره ويكشف رأسه في برد مفرط قاصدًا به تربية شعره ولا يعلم أنه يؤذي رأسه الذي لا نبات لشعره إلا منه، فكذلك دفع حاجة النفس فراغها إلى عبادة الله تعالى ولا علم بكيفية العبادة إلا من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو دفع الإنسان حاجته لا للعبادة فهو ليس دفعًا للحاجة لأن دفع الحاجة ما هو فوق تحصيل المصلحة وهذا ليس فيه مصلحة فضلًا عن أن يكون حاجة وإذا كان للعبادة فترك النبي الذي منه يتعلم كيفية العبادة في الحاجة ودفع حاجة النفس مثل تربية الشعر مع إهمال أمر الرأس، فتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد شيئًا حرم على الأمة التعرض إليه في الحكمة الواضحة.
ثم قال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} تقريرًا آخر، وذلك لأن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ما جعلها الله تعالى في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت الزوجات في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره، فلو قال قائل كيف قال: {وأزواجه أمهاتهم} وقال من قبل: {وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون منْهُنَّ أمهاتكم} إشارة إلى أن غير من ولدت لا تصير أمًا بوجه، ولذلك قال تعالى في موضع آخر:
{إنْ أمهاتهم إلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] فنقول قوله تعالى في الآية المتقدمة: {والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدى السبيل} جواب عن هذا معناه أن الشرع مثل الحقيقة، ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة.
كما أن امرأتين إذا ادعت كل واحدة ولدًا بعينه ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد، وإن تبين أن التي حلفت دون البلوغ أو بكر ببينة لا يحكم لها بالولد، فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع، لا بل في بعض المواضع على الندور تغلب الشريعة الحقيقة، فإن الزاني لا يجعل أبًا لولد الزنا.
إذا ثبت هذا فالشارع له الحكم فقول القائل هذه أمي قول يفهم لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة.
وأما قول الشارع فهو حق والذي يؤيده هو أن الشارع به الحقائق حقائق فله أن يتصرف فيها، ألا ترى أن الأم ما صارت أمًا إلا بخلق الله الولد في رحمها، ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها، فإذا كان هو الذي يجعل الأم الحقيقية أمًا فله أن يسمى امرأة أمًا ويعطيها حكم الأمومة، والمعقول في جعل أزواجه أمهاتنا هو أن الله تعالى جعل زوجة الأب محرمة على الابن، لأن الزوجة محل الغيرة والتنازع فيها، فإن تزوج الابن بمن كانت تحت الأب يفضي ذلك إلى قطع الرحم والعقوق، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أشرف وأعلى درجة من الأب وأولى بالإرضاء، فإن الأب يربي في الدنيا فحسب، والنبي عليه الصلاة والسلام يربي في الدنيا والآخرة، فوجب أن تكون زوجاته مثل زوجات الآباء، فإن قال قائل: فلم لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى، أو لم يقل إن أزواجه أزواج أبيكم فنقول لحكمة، وهي أن النبي لما بينا أنه إذا أراد زوجة واحد من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي عليه الصلاة والسلام، فلو قال أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد، ولأنه لما جعله أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدم على الأب لقوله عليه الصلاة والسلام: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ولذلك فإن المحتاج إلى القوت لا يجب عليه صرفه إلى الأب، ويجب عليه صرفه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إن أزواجه لهم حكم زوجات الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن، وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقية والرضاعية.
ثم قال تعالى: {وَأُوْلُوا الأرحام بَعْضُهُمْ أولى ببَعْضٍ في كتاب الله منَ المؤمنين والمهاجرين إلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْليَائكُمْ مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلكَ في الكتاب مَسْطُورًا} إشارة إلى الميراث، وقوله: {إلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْليَائكُمْ مَّعْرُوفًا} إشارة إلى الوصية، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم، فإن قيل فعلى هذا أي تعلق للميراث والوصية بما ذكرت نقول تعلق قوي خفي لا يتبين إلا لمن هداه الله بنوره، وهو أن غير النبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته لا يصير له مال الغير، وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته، والنبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته كأن الله تعالى عوض النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع ميراثه بقدرته على تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه يرجع إليهم، حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد شيئًا يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ولا يرجع إليهم فقال تعالى: {وَأُوْلُوا الأرحام بَعْضُهُمْ أولى ببَعْضٍ} يعني بينكم التوارث فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم الثاني: هو أن الله تعالى ذكر دليلًا على أن النبي عليه الصلاة والسلام أولي بالمؤمنين وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، ثم إذا أراد أحد برًا مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده، فكذلك الله تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله: {كان ذلك في الكتاب مسطورًا} فيه وجهان أحدهما: في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني: في اللوح المحفوظ.
{إذْ أَخَذْنَا منَ النَّبيّينَ ميثَاقَهُمْ وَمنْكَ وَمنْ نُوحٍ وَإبْرَاهيمَ وَمُوسَى وَعيسَى ابْن مَرْيَمَ}.
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: {يا أيها النبى اتق الله} [الأحزاب: 1] وأكده بالحكاية التي خشى فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحدًا غيره وبين أنه لم يرتكب أمرًا يوجب الخشية بقوله: {النبى أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} [الأحزاب: 6] أكده بوجه آخر وقال: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين} كأنه قال اتق الله ولا تخف أحدًا واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ.
المسألة الثانية:
خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجًا على قومهما، وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها، ونوحًا لأنه كان أصلًا ثانيًا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان، وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوح فكان مخلوقًا للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا.
المسألة الثالثة:
في كثير من المواضع يقول الله: {عيسَى ابن مَرْيَمَ} [البقرة: 87] {المسيح ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 17] إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به، وقوله: {وَأَخَذْنَا منْهُمْ ميثاقا غَليظًا} غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى: {ولنسألن المرسلين} [الأعراف: 6] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولًا وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق، فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظًا للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ منكُم ميثاقا غَليظًا} [النساء: 21] هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد.
{ليَسْأَلَ الصَّادقينَ عَنْ صدْقهمْ وَأَعَدَّ للْكَافرينَ عَذَابًا أَليمًا (8)} يعني أرسل الرسل وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب، لأن الصادق محاسب والكافر معذب، وهذا كما قال علي عليه السلام: «الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب» وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله: {يا أيها النبى اتق الله} [الأحزاب: 1]. اهـ.

.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {النَّبيُّ أَوْلَى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ}.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّد بْن إسْحَاقَ الْمَرْوَزيّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبي الرَّبيع الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْريّ في قَوْله: {النَّبيُّ أَوْلَى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ} قَالَ: أَخْبَرَني أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جَابر بْن عَبْد اللَّه أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بكُلّ مُؤْمنٍ منْ نَفْسه فَأَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دَيْنًا فَإلَيَّ وَإنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لوَرَثَته».
وَقيلَ في مَعْنَى: {النَّبيُّ أَوْلَى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ} إنَّهُ أَحَقُّ بأَنْ يَخْتَارَ مَا دَعَا إلَيْه منْ غَيْره وَممَّا تَدْعُوهُ إلَيْه أَنْفُسُهُمْ.
وَقيلَ: إنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ يَحْكُمَ في الْإنْسَان بمَا لَا يَحْكُمُ به في نَفْسه لوُجُوب طَاعَته؛ لأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بطَاعَة اللَّه تَعَالَى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْخَبَرُ الَّذي قَدَّمْنَا لَا يُنَافي مَا عَقَّبْنَاهُ به منْ الْمَعْنَى وَلَا يُوجبُ الاقْتصَارَ بمَعْنَاهُ عَلَى قَضَاء الدَّيْن الْمَذْكُور فيه وَذَلكَ لأَنَّهُ جَائزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَوْلَى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ في أَنْ يَخْتَارُوا مَا أَدْعُوهُمْ إلَيْه دُونَ مَا تَدْعُوهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلَيْه وَأَوْلَى بهمْ في الْحُكْم عَلَيْهمْ وَلُزُومهمْ اتّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلكَ بقَضَاء دُيُونهمْ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} قيلَ فيه وَجْهَان:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ كَأُمَّهَاتهمْ في وُجُوب الْإجْلَال وَالتَّعْظيم.
وَالثَّاني: تَحْريمُ نكَاحهنَّ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ كَالْأُمَّهَات في كُلّ شَيْءٍ؛ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلكَ لَمَا جَازَ لأَحَدٍ منْ النَّاس أَنْ يَتَزَوَّجَ بَنَاتهنَّ؛ لأَنَّهُنَّ يَكُنَّ أَخَوَاتٍ للنَّاس، وَقَدْ زَوَّجَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ بَنَاته، وَلَوْ كُنَّ أُمَّهَاتٍ في الْحَقيقَة وَرثْنَ الْمُؤْمنينَ، وَقَدْ رُويَ في حَرْف عَبْد اللَّه: {وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} وَلَوْ صَحَّ ذَلكَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَالْأَب لَهُمْ في الْإشْفَاق عَلَيْهمْ وَتَحَرّي مَصَالحهمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنْفُسكُمْ عَزيزٌ عَلَيْه مَا عَنتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بالْمُؤْمنينَ رَءُوفٌ رَحيمٌ}.
وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْليَائكُمْ مَعْرُوفًا}.
رُويَ عَنْ مُحَمَّد بْن الْحَنَفيَّة أَنَّهَا نَزَلَتْ في جَوَاز وَصيَّة الْمُسْلم للْيَهُوديّ وَالنَّصْرَانيّ.
وَعَنْ الْحَسَن: أَنْ تَصلُوا أَرْحَامَكُمْ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الْمُؤْمنُ وَالْكَافرُ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ إعْطَاؤُهُ لَهُ أَيَّامَ حَيَاته وَوَصيَّتُهُ لَهُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبي الرَّبيع الجرجاني قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ في قَوْله: {إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْليَائكُمْ مَعْرُوفًا} قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ لَك ذُو قَرَابَةٍ لَيْسَ عَلَى دينك فَتُوصي لَهُ بشَيْءٍ هُوَ وَليُّك في النَّسَب وَلَيْسَ وَليَّك في الدّين. اهـ.